مقتل عمر بن الخطاب
قال عمرو بن ميمون: إنى لقائم ما بيني و بينه - يعني عمر - إلا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما غداة أصيب (أي اُستشهد)، و كان إذا مرّ بين الصفين قال: استووا (أي سوّوا صفوفكم)، حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدّم فكبّر، و ربما قرأ بسورة يوسف، أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبّر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب. حين طعنه فطار العِلج (العلج هو الرجل الغليظ الضخم من كفار العجم و جمعه علوج وعلجة و أعلاج، و قد يطلق على الكافر عموما، و هو هنا أبو لؤلؤ فيروز المجوسي، و جاءت هذه الكلمة في أبيات قالها أبو البقاء الرندي في مرثيته الشهيرة يصف حال سبي الفرنجة لبنات المسلمين:
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت و مرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة و العين باكية و القلب حيران)
بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يمينا و لا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة.
فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا (أي قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الإسلام، و كل ثوب يكون غطاء الرأس جزءا منه متصلا به) ، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر (أي قتل) نفسه.
و تناول عمر رضي الله عنه يد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقدّمه (أي للإمامة) فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى و أما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، و هم يقولون سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال عمر: يا بن عباس! انظر من قتلني؟ قال: فجال (ابن عباس) ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة.
قال الصَّنَع؟ (بفتحتين و بالفتح و الكسر و سكون النون، أي حاذق في الصنعة و ماهر في عمل اليدين) قال نعم.
قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا.
الحمد الله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدّعي الإسلام، قد كنتَ أنتَ و أبوك تحبان أن تكثر العلوجُ بالمدينة.
و كان العباس أكثرهم رقيقا فقال ابن عباس رضي الله عنهما، إن شئت فعلت (أي إن شئت قتلنا)
قال: كذبت بعدما تكلّموا بلسانكم، و صلّوا قبلتكم، و حجّوا حجّكم فاحتُمل إلى بيته رضي الله عنه فانطلقنا معه، قال: و كأنّ الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: لا بأس
و قائل يقول: أخاف عليه.
فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أن ميت.
فدخلنا عليه و جاء الناس فجعلوا يثنون عليه، و جاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! ببشرى الله، لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت ثم شهادة.
قال: وددت أن ذلك كفافا لا عليّ ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمسُّ الأرض فقال: ردّوا عليّ الغلام.
فقال يا بن أخي! انظر ما عليّ من الدّين؟
فحسبوه فوجدوه ستة و ثمانين ألفا و نحوه، قال إن وفى له مال آل عمر فأدّه من أموالهم، و إلا فسل في بني عدي بن كعب فإن لم تفِ أموالهم فسل في قريش، و لا تعدُهم إلى غيرهم فأدّ عنّي هذا المال.
انطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقل: يقرأ عليك عمر السلام، و لا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليومَ للمؤنين أميرا، و قل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
قال: فسلّم فاستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، و يستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت: كنت أريده لنفسي و لأؤثرنّ به اليوم على نفسي.
فلمّا أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء.
فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه.
فقال: ما لديك؟
قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، قد أذنت.
فقال: الحمد لله، ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قُبضت فاحملوني ثم سلّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن إذنت لي فأدخلوني، و إن ردتني فردّوني إلى مقابر المسلمين و جاءت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها و النساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، و استأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا:
أوص يا أمير المؤمنين! استخلف.
قال ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عنهم راضٍ.
فسمى عليّا و عثمان و الزبير و طلحة و سعدا و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم و قال: يشهدكهم عبد الله بن عمر، و ليس له من الأمر شيء ( كهيئة التعزية له ) فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، و إلا فليستعن به أيكم ما أمِّر، فإني لم أعزله من عجز و لا خيانة.
و قال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم و يحفظ لهم حرمتهم و أوصيه بالأنصار خير - الذين تبوّؤوا الدار و الإيمان من قبلهم - أن يقبل من محسنهم و أن يعفي عن مسيئهم، و أوصيه بأهل الأمصار خيرا فإنهم رِدء الإسلام و جباة المال و غيظ العدو، و أن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، و أوصيه بالإعراب خيرا فإنهم أصل العرب و مادّة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم و ترد على فقرائهم، و أوصيه بذمة الله و ذمة رسوله صلى الله عليه و سلم، أن يوفي لهم بعهدهم و أن يقاتل من وراءهم و لا يكلفوا إلا طاقتهم.
فلما قُبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر.
قال: يسأذن عمر بن الخطاب، قالت (اي عائشة رضي الله عنها):
أدخلوه فأُدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن:
اجعلوا امركم إلى ثلاثة منكم.
قال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ.
و قال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان.
و قال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف.
فقال له عبد الرحمن: أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه، و الله عليه و الإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه.
فأُسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ؟ و الله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم.
قالا: نعم.
فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه و سلم و القدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمّرتك لتعدلن و لئن أمّرتُ عثمان لتسمعنّ و لتطيعنّ.
ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان!
فبايعه فبايع له عليّ رضي الله عنه و ولج أهل الدار فبايعوه.